توطين الثقافة في فلسطين المستعمَرة | أرشيف

قدري حافظ طوقان (1910 - 1971)

 

المصدر: «مجلّة المقتطف».

زمن النشر: 14 كانون الأوّل (ديسمبر) 1936.

الكاتب: قدري حافظ طوقان.

العنوان الأصليّ: «الثقافة والإنتاج العلميّ في فلسطين».

 


 

لا يختلف اثنان في أنّ الوضع الحاضر في فلسطين شاذّ وغير طبيعيّ، وهو مثل غيره في الأقطار الشقيقة المجاورة؛ فالكلّ يقاسي آلامًا مبرحة من الاستعمار والمستعمِرين، والكلّ واقع تحت نير الاستعباد والعبوديّة، ولست واحدًا أحدًا يرضى عن السياسة المتبّعة في بلاده وعمّا يجري حوله، إلّا أنّ هناك فرقًا بين فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة؛ ففي هذه جبروت واحد وطاغية واحد، وهنا جبروتان وطاغيتان قد تسلّحا بالخبث والمكر والقوّة والدهاء، وعلى هذا فالمصيبة هنا أعظم، والبلاء هنا أعمّ، والخطر محقّق والفناء يتهدّد.

 

الاستعمار والنهضة

من الطبيعيّ أنّ بلادًا هذه حالها لا تكون صالحة للإنتاج العلميّ، ولا لازدهار الثقافة والأدب بالمعنى الواسع. ومن الطبيعيّ أن تؤثّر هذه الأوضاع على الشباب المثقّف وعلى الأدباء والعلماء؛ فتأخذ قسمًا من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في مبادئ السياسة لدرء الأخطار المحدقة، ولتخفيف المصائب المنصبّة علينا انصبابًا من كلّ جانب. وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبدع، إذا لم تكن تلك القريحة في جوّ من الحرّيّة، وفي محيط خالٍ من القيود والأغلال ليس فيه من يسخّرك لمنافعه ومصالحه، وليس فيه من يسعى للقضاء على معنوياتك، وعلى قتل الطموح فيك؟

وكيف يمكن لشابّ أن يعكف على العلم بقصد الاستزادة والاكتشاف والبحث والاستقصاء، إذا لم يكن هناك مَنْ يساعده ويشجّعه ويأخذ بيده؟ فكيف به إذا وجد في محيطه كلّه تثبيط للهمم، وإحباط للعزائم؟ وإذا تتبّعنا الطرق الّتي تسير عليها الحكومات المستعمِرة في مختلف دوائرها، ولا سيّما المعارف منها، نجد أنّها ترمي إلى القضاء على روح الطموح، على روح البحث وحبّ الاستزداة من العلوم والفنون، وترمي إلى خلق روح الاعتماد في الناشئة على الغير، وإلى إماتة الروح الوطنيّة، وبثّ روح الاستهتار بالتراث العربيّ والإسلاميّ وانتقاصهما بشتّى الوسائل، وفوق ذلك، نجدهم، أي المستعمِرون، يشغلون أوقات الناس والموظّفين في أمور ليس فيها متاع، وليس فيها ما يعود على البلاد بخير أو نفع.

من الطبيعيّ إذن، هنا وفي البلاد الرازحة تحت نير الاستعمار، أنّ الحكومات فيها لا تشجّع العلم ولا تحثّ على متابعته، ولا على إيجاد رغبة صادقة في التأليف والبحث على الرغم من حاجة الأمّة إلى كلّ ذلك. وإذن، فلا محلّ لغرابة الكثيرين من موقف الحكومة تجاه المؤلّفين وتجاه الّذين يلاحقون فروعهم في العلم والفنّ، بل الغرابة كلّ الغرابة في حسن ظنّ هؤلاء الكثيرين بالحكومات المنتدبة والاعتماد عليها في تشجيع الناس في التنوير والتقدّم، وقد جَهِلوا أو تناسوا أنّ هذه الحكومات تسير وفق برنامج استعماريّ خاصّ، من شأنه أن يقضي على كلّ ما من شأنه رفع مستوى الأمّة ورقيّها.

 

توطين المعرفة قوميًّا

لهذا، وجب على العلماء العرب أن يلتفتوا إلى هذه الناحية، وأن يعيروها بعض اهتمامهم، وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كلّ شيء، وأن يأخذوا من موقف الحكومات قوى تحفّزهم على توسيع الحركة الثقافيّة في فلسطين وغيرها، ونشر روح البحث والاستقصاء بين المثقّفين، ويقضي الواجب الوطنيّ على الشباب العامل والأساتذة أن ينحوا في تعليم الناشئة وتثقيفها ناحية قوميّة وطنيّة، وقد يجدون في هذا صعوبة، وقد يصادفون أمامهم عقبات، ولكن عليهم أن يجاهدوا ويصرفوا بعضًا من مجهوداتهم في التغلّب على ذلك، وفي توجيه التعليم والثقافة توجيهًا يخلق في النشء روح الاعتزاز بالقوميّة وروح الاعتقاد بالقابليّة، يخلق في الناشئ شخصيّة قويّة وكيانًا مستقلًّا ورجولة مستعدّة لتلبية نداء الوطن، قادرة على المساهمة في خدمة الحضارة.

ويقضي الواجب الوطنيّ على الباحثين أن ينحوا ببحوثهم الناحية القوميّة، وأن يبيّنوا للناشئة فضل العرب الكبير على المدينة، وقد تبوّأوا مركزًا أساسيًّا لم يتبوّأه غيرهم أيّام كانوا سائرين على النهج القويم الّذي وضعه الرسول وصحبه وخلفاؤه، أيّام كان الاهتمام باللباب دون القشور. بهذا وحده يمكن أن تنشئ الأمّة شبابًا مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، شبابًا مثقّفًا ثقافة قوميّة وطنيّة يعرفون كيف يخدمون الوطن. وهذا هو أقوى سلاح يمكن أن تمدّ به الأمّة الناهضة ليساعدها على خوض غمار هذه الحياة عالية الرأس موفورة الكرامة، وعلى نيل ما تبغى من عزّ وسؤدد.

 

مبادرات محلّيّة 

قد يسرّ القرّاء الكرام أن يعلموا أنّ هناك مساعٍ جدّيّة للشروع في أعمال مشتركة تؤدّيها جماعات مثقّفة تأخذ على عاتقها الاشتغال في ناحية خدمة الأمّة عن طريق بثّ الثقافة والتعليم القوميّ، عن طريق بعث الثقافة العربيّة والإسلاميّة، من خلال تشجيع ذوي العقول النيّرة والقرائح الخصبة في توجيه بحوثهم ونتاجهم في العلم والفنّ إلى ناحية قوميّة وطنيّة.

وقد قام جماعة في نابلس من الشباب المثقّف بإنشاء ناد ثقافيّ أطلقوا عليه اسم «النادي الثقافيّ»، غايته هي: "إيجاد روابط وصلات بين المتعلّمين، والعمل على تأليف قلوبهم وتوحيد جهودهم العلميّة والأدبيّة وتوجيهها توجيهًا قوميًّا، ورفع مستوى البلد الثقافيّ والأدبيّ بطرق مختلفة عمليّة، أهمّها المحاضرات والحلقات العلميّة وإيجاد مكتبة حافلة بالكتب القيّمة...". وسيجد الناس في هذا النادي وطنيّة عمليّة ستعود على البلاد بفوائد جليّة. وكذلك هناك جماعات في نابلس والقدس ويافا وحيفا وبقيّة البلاد، تفكّر في مشروع إنشاء لجنة ترجمة وتأليف ونشر على غرار لجنة مصر. والّذي نرجوه أن توفّق هذه الجماعات في مشاريعها الثقافيّة، وأن تأخذ بيد الأمّة إلى حيث التقدّم والمجد ومعارج القوّة والعظمة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.